السنة الهجرية الجديدة 

محمد الجبالي*

mohamed_gebaly@hotmail.com

نسير إلى الآجال في كل لحظة       وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل

ترحل من الدنيا بزاد من التقى        فعمرك أيـام  وهن قلائـل

أزف إليكم رحيل هذا العام، فها هو يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد رحاله (وكل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها) عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكماً وعبراً، وأحداثاً وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، و كم سعد فيه من آخرين؟  كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل قد تأيم؟ كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، و كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود،  عناق وعبرات من شوق اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق،  أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها كالأيام.

أيها المسلمون: لقد انتهى عام  فبماذا انتهى؟ حضر فلان وغاب فلان، مرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغيَّر أحوال، وتبدل أشخاص، فسبحان الله ما أحكم تدبيره، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى، تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل  هذه الأعوام التي تتوالى علينا هي أعوام هجرية نسبة إلى الهجرة، نسبةً إلى الكفاح، نسبةً إلى النصر الذي حققه الرسول العام حين ينصرم نتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام كيف وقد خرج من مكة خرج فائزًا منتصرًا والظاهر أنه خرج عليه الصلاة والسلام فارًا بدينه، لا والله ليس هذا الفرار بالدين من الذلة والصغار, ليس هذا الفرار بالدين من المهانة, إنما هو من العزة والرفعة لهذا قال الله عز وجل: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذا هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)،   فسمّاه الله عز وجل نصرًا, حين يبدو في الأنظار خروجًا وفرارًا قال تعالى: (إلا تنصروه) أي: إن أحجمتم عن نصرة هذه الدين وانشغلتم بالدنيا ولم تقدموا على الجهاد ولم يكن الدين في حياتكم له وزنًا، إلا تنصروه، إلا تنصروا محمد حيًا وميتًا، فنصره عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم الدين، فإن موته عليه الصلاة والسلام لا يعني توقف نصره, (إلا تنصروه) أي: لو تخاذلتم جميعًا عن نصرته فقد نصره الله، متى؟ متى كان نصر الله للنبي؟ لا يقول الله تعالى يوم بدر، لا يقول الله تعالى يوم فتح مكة، إنما يقول الله تعالى: (إذ هما في الغار)  حين كان النبي عليه الصلاة والسلام في الغار في غار ثور إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، وورد في الصحيح عنه لمّا دخلا في الغار وجاءت صناديد قريش تنظر إلى الغار: قال أبو بكر: "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال عليه الصلاة والسلام: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)، إنها الثقة بالله تعالى، ماذا تظن اثنين الله ثالثهما، رب العباد معهما، إن الأمير أو السلطان في الدنيا لو مال بكنفه على أحد من الناس لهاب الناس ذلك الذي مِيل إليه، ولأقام الناس وزنًا لهذا الذي مِيل إليه, فكيف برب العباد؟ فكيف بالحيي الذي لا يموت إذا رضي بعبد من عبيده، لذا كان معه معية نصر ومؤازرة ومعاونة (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، إذ يقول لصاحبه لا تحزن تثبيتًا لصاحبه يقول للصديق: إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه، أنزل الله الطمأنينة في قلبهما وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا يا سبحان الله وكأن العمر قد انقضى وكأن الأيام قد تداولت، فترى أنفسنا أمام نصر مؤزر، فترى أنفسنا وكأن كلمة الذين كفروا السفلى ونرى أنفسنا وكأننا في يوم فتح مكة يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة خافظًا رأسه متواضعًا بالنصر الذي أكرمه الله تعالى به، يدخل فترى رأي العين كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.

هذا هو طريق النصر الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام, وينبغي ونحن نستقبل مثل هذا العام أن نتذكر هذا الكفاح الذي كافحه وأن ننصر دينه وإلا كما قال تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله, يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).

فنسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله وأن يجعلنا من الناصرين لدينه, وعلينا أيضًا إخوة الإيمان أن نستقبل هذه السنة بالأعمال الصالحة إذا كان يستقبل هذا الشهر شهر الله الحرام بالصيام، كان يستقبله بطاعة الأعمال كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة, وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان فقال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل, وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم). والحديث عند مسلم وأبي داود.

فكان يستقبل سَنته الجديدة بطاعة الله تعالى آكد الآيام في الصيام في هذا الشهر الذي نستقبله هو يوم التاسوعاء والعاشوراء؛ فقد صامه الرسول كما ثبت ذلك عنه في الصحيح لما قدم المدينة فوجد يهودًا تصوم عاشوراء فسألهم عن ذلك فقالوا: يوم نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم وأغرق فيه فرعون وقومه, فصامه موسى شكرًا لله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) فصامه, أي صام عاشوراء, وأمر بصيامه وذلك في ابتداء الأمر ثم كان بعد ذلك من شاء صام ومن شاء تركه. فقال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن تاسوعاء)، فأكمل الصفات لصيامه أن يصوم الإنسان التاسع والعاشر وإلا اقتصر على العاشر. 

والله سبحانه وتعالى أعلم.